في تصنيف مناهج تعليمية بواسطة (2.4مليون نقاط)

مقولة تجمع بين الشعور واللاشعور المشكلة الثالثة: في الشعور واللاشعور

المشكلة الثالثة: في الشعور واللاشعور

المقالة الأولى: الجدل حول أساس الحياة النفسية بين الشعور واللاشعور 

السؤال: هل أساس الحياة النفسية قائم على الشعور أم اللاشعور؟

طريقة معالجة السؤال: جدلية

1- طرح المشكلة :

          يهتم علم النفس التقليدي القائم على المنهج الإستبطاني – العقلي (أي المراقبة الداخلية للحياة النفسية الشعورية) بدراسة الإنسان ككائن حي له حياة نفسية متميزة تشتمل على المشاعر والعواطف والذكريات...إلخ، التي لا يعرفها (يدركها) إلا هو، أي أنه كائن واع لذاته النفسية الشعورية من جهة، ولما يحيط بها في الواقع من جهة أخرى، ويٌمكن تعريف الشعور (الوعي أو التفكير أو الوجدان الباطني) على أنه حدس الذات (النفس) ووعيها لأفعالها وانفعالاتها، فالأفعال تتمثل في مختلف العمليات العقلية كالتذكر والتخيل والإدراك...إلخ، والإنفعالات تتمثل في المشاعر والعواطف والميول (كالحزن والسعادة والقلق والحب)...إلخ، ويٌعرفه "لالاند" - أيضا - بقوله:"هو حدس العقل التام والواضح لأحواله وأفعاله". 

غير أن علم النفس الحديث القائم على منهج التحليل النفسي (منهج التنويم المغناطيسي ومنهج التداعي الحر) أشار إلى أن هناك فرضية فلسفية أو نظرية علمية تؤكد أن سلوك الإنسان مصدره حوادث نفسية باطنية لا شعورية مجهولة وغامضة، ومن هنا فاللاشعور هو الجانب العميق من النفس يحتوي على ميول ورغبات مكبوتة مستعدة للظهور من حين لآخر في ساحة الشعور أو هو تلك السلوكات غير الواعية (اللامعروفة) التي يقوم بها الإنسان دون أن يعي أسبابها ومصدرها، ولقد أثارت "مشكلة أساس الأحوال النفسية" جدلا وتناقضا بين الفلاسفة وعلماء النفس، وأطباء الأمراض العقلية والنفسية، فهناك من يرى بأن أساس (مبدأ أو مصدر) الحوادث النفسية يتمثل في الشعور كحقيقة سيكولوجية (نفسية)، ونقيضا لذلك هناك من يعتقد (فرضية) ويؤكد (نظرية) بأن الأحوال النفسية قائمة على أساس اللاشعور كحقيقة نفسية باطنية، ومنه نطرح المشكلة ونقول:

إلى أي مدى يعتبر الشعور (الوعي) مصدرا وأساسا للأحوال النفسية؟ وبصيغة أخرى: أيهما يمثل تفسيرا حقيقيا للحياة النفسية، الوعي (الشعور) أم اللاوعي (اللاشعور)؟ 

2- محاولة حل المشكلة :

          يرى أنصار الموقف الأول الذين يمثلون النظرية التقليدية (الكلاسيكية) العقلية في علم النفس أمثال (ابن سينا – ديكارت – هنري آي – أندري لالاند – هنري برغسون – جون بول سارتر) أن الحياة النفسية بمختلف حوادثها تقوم على أساس الشعور (الوعي أو التفكير أو الوجدان الباطني) والدليل على ذلك أولوية الفكر على الوجود، لأن الإنسان موجود كذات مفكرة أولا، قبل الوجود المادي، وهذا ما أكده "ديكارت" بقوله:"أنا أفكر إذن أنا موجود"، ومن هنا ما دام الشعور هو الحدس فإنه يقدم لنا معرفة تامة وواضحة عن أحوالنا النفسية الداخلية، فكما يقول "ديكارت" :"الشعور والحياة النفسية مترادفان"، وبالتالي فمن الضروري الفصل التام بين النفس (الشعور) والبدن (الجسم)، وهذا يعني أن النفس تعي جميع أحوالها وتشعر بها، فكل ما هو نفسي شعوري بالضرورة، لأنه لا توجد واسطة بين الشعور والأحوال النفسية، وكل ما هو جسمي لا شعوري بالضرورة، ومن هنا كان شعارهم:"كل ما لا نشعر به ليس من أنفسنا"، وهذا ما جعل "لالاند" يقول:"الشعور معطى أولي غير متميز ومادة لكل حياة نفسية"، أو كما يقول "هنري آي" :"الشعور والحياة النفسية مترادفان، وبالتالي فإن

الظاهرة إما لا شعورية فيزيائية أو شعورية نفسية".

أما "ديكارت" فقد أكد أن نشاط الروح (النفس) يتمثل في التفكير، وكما يقول:"لا وجود لحياة نفسية خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية، إذ أن النفس لا تنقطع عن التفكير إلا إذا إنقطع وجودها"، ومن هنا فالشعور يتسع لكل الحياة النفسية وهو مستقل عن البدن، ويقول "ديكارت" :"لذا ثبت عندي أن هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا، تتميز عن جسمي تميزا تاما حقيقيا هي قادرة على أن تكون أو توجد بدونه..."، وكمثال على أن الشعور نفسي، واللاشعور جسمي فإننا لا نشعر بعمل المعدة أو الدورة الدموية أو حركة العين، لأن هذه أحوال جسمانية لا شعورية، أما "حبي" لشخص ما فيمثل حالة نفسية شعورية. 

ولأن الشعور يتميز بالإستمرار والديمومة فإن الأحوال النفسية في الحاضر هي امتداد واستمرار للأحوال النفسية الماضية، وسيضل الفرد يشعر بتلك الأحوال طيلة حياته، فالشعور بالذات لا يتوقف أبدا كما أكد ذلك "ابن سينا".

أما "هنري برغسون" فقد أكد أن الحياة النفسية ديمومة متجددة متواصلة وكيفية تلقائية، ويقدم لنا "صاحب جائزة نوبل" (1927) مثالا يوضح فيه فكرة "الديمومة" فمثلا: الشعور بالفرح يبدو ضعيفا إذا إنعزل عن حياتنا النفسية، لكنه عندما يرتبط بها يصبح أشد وأقوى لأن الديمومة تمثل تعبيرا حقيقيا عن الوجدان الباطني وما فيه من مشاعر وعواطف غير منقطعة تٌعبّر عن الزمان الحيوي الديناميكي الشعوري الذي نعيشه دون أن يكون هناك انقطاع بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا الشعوري، وكما يقول "برغسون": "الديمومة المحضة هي الديمومة الواقعية، الديمومة التي تعاش فعلا"، أي تلك التي نعيشها شعوريا.

على هذا الأساس من المستحيل الجمع بين الشعور واللاشعور داخل الحياة

النفسية (دليل منطقي) لأن الحياة النفسية في جوهرها شعورية فقط، لذلك لا يمكن أن تكون لا شعورية فمثلا: لا يمكننا أن نتصور عقلا لا يفكر، ونفسا لا تشعر، ولهذا فالتسليم بوجود اللاشعور يمثل تناقضا واضحا في حياة الإنسان، وكما يقول "سارتر" :"فالسلوك الذي يختاره الإنسان إنما يعيشه ويشعر به". 

وضمن نفس السياق أكد الفلاسفة التجريبيين عدم وجود اللاشعور لأنه غير قابل للملاحظة لا بالحواس الخارجية ولا بالحواس الباطنية (الحس المشترك – الخيال – الوهم – الحافظة – المتصرفة)، أما الشعور فهو قابل للملاحظة بالحواس الباطنية فمثلا: عندما نفرح نشعر بالسعادة في أعماقنا النفسية.

 إذن، فحياتنا النفسية شعورية بامتياز. 

          صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الأول، لكن أنصار النزعة المادية بزعامة (داروين) وأنصار المدرسة السلوكية التي يمثلها "جون واطسن" اعتبروا الشعور بمثابة إحساس، أي أن الشعور ظاهرة فيزيولوجية قابلة للملاحظة، وأفعالنا وانفعالاتنا هي ردود أفعال جسمية، وهذا ما جعل "داروين" يقول:"النفس خرافة ميتافيزيقية"، كما أن أنصار الشعور لم يميزوا بين الشعور كظاهرة نفسية، وبين الفكر كعملية عقلية، أضف إلى ذلك أن الشعور لا نلمسه ولا نراه ولا نستطيع قياسه، إذن فهو غير موجود، وهذا يعني أن القائلين بالشعور والوعي واهمون وعاجزون عن معرفة حقيقة النفس، بل كيف نفسر السلوكات الغامضة الصادرة عنا ولا نعرف سببها أو مصدرها مثل: كرهنا لشخص نراه لأول مرة، أو اصابتنا بتأنيب الضمير تجاه حالة ما؟، بالطبع إنه اللاشعور هو الذي يتحكم فينا، كما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجمع بين المتناقضات، الحب والكره، والخير والشر، والشعور واللاشعور، بل إن علم النفس الحديث أثبت لنا أن الحياة النفسية ليست مرادفة للشعور، بل هي أوسع منه بكثير، مما يعني أن كل نشاط نفسي ليس بالضرورة شعوريا، فقد يكون لا شعوريا، وإذا كان "ديكارت" قد أنكر وتجاهل دور اللاشعور واعتبره حادثة فيزيولوجية، فإن اللاشعور يبقي جزء من الحياة النفسية لأنه يٌعبّر عن الجانب الغامض والمجهول لهذه الأحوال النفسية، ومن هنا فاللاشعور حقيقة ثابتة لا يمكن انكارها. 

          وعلى النقيض يؤكد أنصار الموقف الثاني الذي يمثله العديد من الفلاسفة وعلماء مدرسة التحليل النفسي أمثال (ليبنتز- كانط – شاركو – بيرنهايم - جوزيف بروير - سيغموند فرويد) أن الأحوال النفسية بمختلف أفعالها العقلية وانفعالاتها النفسية قائمة على أساس اللاشعور (اللاوعي) لأن هناك دلائل فلسفية وعلمية تؤكد وجود حياة نفسية لا شعورية، فقد أثبت الفيلسوف الألماني "ليبنتز" أن هناك عددا لا حصر له من الإدراكات (ادراكات صغيرة) تفلت من قبضة تأملنا ووعينا في كل لحظة انطلاقا من تصنيفه للشعور إلى درجات، فهناك التأملي والهامشي وما تحت الشعور القريب من اللاشعور، وكما يقول:"إن الروح تفكر دوما، ولكن لا أوافق على أنها تشعر بكل أفكارها، فالحاضر مثقل بالمستقبل ومشحون بالماضي، وليس بالإمكان أن نتأمل دائما بوضوح كل أفكارنا".

أما "إيمانويل كانط" فقد أكد أن نفوسنا تتضمن تغيرات ندركها بصورة مبهمة، وهذا يعني أن في نفوسنا "تصورات غامضة" وأفكار تخفى على الشعور.

ويعود إثبات اللاشعور بطريقة علمية إلى مدرسة التحليل النفسي التي اهتمت بمعالجة الإضطرابات (الأمراض) النفسية والعقلية وخاصة مرض "الهيستيريا"، حيث أكد الأطباء في القرن التاسع عشر أن الأمراض العقلية والنفسية لها أسباب عضوية (جسمية) يمكن علاجها بالأدوية والعقاقير والمهدئات، لكن الطب لم يتمكن من تحديد هذه الأسباب العضوية للأمراض العقلية والنفسية، كالهستيريا والعصاب والذكريات الأليمة والسلوكات الغامضة والمجهولة...إلخ، مما أدى ببعض الأطباء وفي مقدمتهم "بيرنهايم" إلى إرجاع هذه الأمراض لأسباب نفسية من خلال استخدامهم لمنهج التنويم المغناطيسي لمعالجة مرض الهستيريا، إلا أن الشفاء لم يكن تاما، لأن المريض سيصاب بالهستيريا من جديد بعد مدة معينة بسبب سيطرة بعض الأفكار اللاشعورية على سلوكاته، وهذا ما أكده "بيرنهايم" بقوله:"إن فكرة ما إذا ما رسخت في الذهن أصبحت تمارس نشاطا لا شعوريا".

 أما "شاركو" فقد أكد أن الأعراض العصبية للهستيريا مثل: الخلط الذهني وعجز الجهاز العصبي عن آداء وظيفته، ليس لها سبب عضوي، وبالتالي لها سبب نفسي لا شعوري غامض ومجهول، وهذا ما دفع "جوزيف بروير" إلى القيام بعدة تجارب على المرضى معتمدا على طريقة التنويم المغناطيسي، أشهرها التجربة التي قام بها على فتاة عمرها واحد وعشرون (21) سنة أصيبت بمرض "الهستيريا" بعد وفاة أبيها، فكانت تعاني من اضطرابات في حركة العينين وفي الرؤية، وعند اخضاعها للتنويم المغناطيسي تحدثت عن مكبوتاتها المتعلقة بالذكريات الأليمة في حياتها، فتحدثت عن مرض أبيها، وكيف كانت تحبس دموعها (تكبتها في ساحة اللاشعور) حتى لا يتأثر أبوها، وعندما استيقظت من التنويم واستعادت وعيها زالت عنها أعراض المرض، فلاحظ "بروير" أن المريض إذا تذكر مرضه شفي منه وزالت عنه أعراضه، كما يمكن تخليص المريض من بعض الإضطرابات عن طريق التعبير عما يشعر به. 

غير أن العلاج بالتنويم المغناطيسي دفع "سيغموند فرويد" إلى البحث عن

وسيلة أخرى لعلاج هذه الأمراض فتوصل إلى التحليل النفسي الذي يقوم على منهج التداعي الحر، وتأكد من أن أعراض الهستيريا سببها إخفاء بعض الذكريات الأليمة والأحداث المكبوتة، وبالتالي إكتشف بأن هناك علاقة بين الأعراض العصبية والحياة النفسية اللاشعورية (المكبوتات)، وكما يقول "فرويد" :"إن فرضية اللاشعور، فرضية لازمة ومشروعة ولنا أدلة كثيرة على وجود اللاشعور".

 

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (2.4مليون نقاط)
 
أفضل إجابة
ومن أدلة وجود اللاشعور حسب مدرسة التحليل النفسي الوقائع التالية:

الأحلام، وتعتبر مجالا لظهور الرغبات اللاشعورية (الميول والرغبات المكبوتة) لأن النوم يكشف عن الصراعات النفسية التي يعانيها النائم، وفيه تزول الضغوط الإجتماعية والأخلاقية فمثلا: الصبي الذي حٌرم من لباس العيد يرى نفسه في الأحلام أنه داخل متجر مليء بالألبسة الجميلة، وقد أكد "فرويد" في كتابه "تفسير الأحلام":"أن الأحلام هي الطريق الملكي إلى اللاشعور".

النسيان، وله علاقة بالميول والرغبات المكبوتة في اللاشعور، لأن الفرد يتذكر الحوادث النفسية العادية بسهولة، أما الحوادث النفسية المؤلمة فهو يميل إلى نسيانها وكبتها في اللاشعور، أي لا يرغب في تذكرها، ولعل تذكر المريض لعقده النفسية الناتجة عن الحوادث النفسية المؤلمة يؤدي إلى شفاءه حسب ما أكده لنا "فرويد".

فلتات اللسان وزلات القلم، وهي تلك الهفوات والزلات التي تصدر على لسان صاحبها أو قلمه، فقد ينطق الفرد بعكس ما يريد أن ينطق به مثل: الفرد الذي يقول (جموده) بدلا من (جهوده) أو قد يكتب كلمات عكس المدلول الذي يرغب في التعبير عنه مثل: (نقمة) بدلا من (نعمة)، فهذه الهفوات لها دلالات لا شعورية كالغيرة والكراهية...إلخ.

النكت، وهي مجال لتحقيق اللاشعور، وخاصة النكت التي تتضمن قضايا جنسية، لأن الأشياء التي لا يمكن التعبير عنها في الواقع نصوغها في نكتة.

ولعل اكتشاف "فرويد" للاشعور جعله يقسم الجهاز النفسي إلى ثلاثة أقسام وهي:

الهو: ويمثل ساحة اللاشعور التي تتجمع فيها الدوافع والميول والرغبات والعدوانية والأنانية الصادرة عن الغريزة الجنسية، هذه الأخيرة يسميها "فرويد" بـ (الليبيدو libido)، وهذه الدوافع تظهر في مرحلة الطفولة ثم تختفي في اللاشعور ثم تظهر ثانية في مرحلة المراهقة وما بعدها، وقد جعل "فرويد" من الغريزة الجنسية مصدر كل السلوكات كالحب واللذة الجنسية والعاطفية، وبالتالي فهي تهدف للحفاظ على الحياة (غريزة الحياة)، أما غريزة الموت (العدوان والتدمير) فتتمثل في العدوان على الغير (كما في الحرب) أو العدوان على الذات (كما في الإنتحار) مما يعني أن الإنسان له استعداد غريزي للعدوان والتدمير.

الأنا: ويتمثل في الشعور، أي الذات الواعية التي تتصرف وفق مقتضيات وظروف الواقع.

الأنا الأعلى: ويتمثل في القوانين الإجتماعية والأخلاقية والدينية والقانونية، ووظيفته محاربة الرغبات الغريزية (للهو).

إذن، فاللاشعور حقيقة نفسية واقعة فعلا.

          صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الثاني، لكن تغليب اللاشعور على الشعور وإعطاء الأولوية للغرائز لا ينسجم مع طبيعة الإنسان ككائن عاقل، كما أن "فرويد" عندما أخضع سلوكات الإنسان إلى غريزة "الليبيدو" libido)) والدوافع الجنسية يجعلنا نفهم بأن الإنسان كائن غريزي مثل الحيوان، وهذا غير ممكن، أضف إلى ذلك أن فرضية اللاشعور لا ترتقي إلى مستوى الفرضية العلمية لأنه لا يمكن التحقق من صحتها دائما، كما أن تجارب "فرويد" اقتصرت على المرضى ولم تمتد إلى الأسوياء، بل إن نتائج العلاج بالتنويم المغناطيسي كانت محدودة، لأن المريض سرعان ما يعود إلى ما كان عليه، أضف إلى ذلك أن بعض المرضى ليس لهم قابلية للتنويم المغناطيسي، وإذا كان اللاشعور مصدره المكبوتات، فإن هذه المكبوتات في الواقع ليست غامضة لدى المريض، إنه يشعر بها ولكنه يتجاهلها، كما أن نظرية "فرويد" أحادية الجانب، أي أنها إهتمت بسلوكات الإنسان من الناحية اللاشعورية (الجنسية) وأهملت تأثير الظروف الإجتماعية...إلخ، في السلوك، بل إن تلاميذ "فرويد" رفضوا إرجاع اللاشعور إلى الليبيدو فمثلا: "ألفريد آدلر" أكد أن اللاشعور مصدره عقدة النقص والتعويض، وهذا ما أكده بقوله:"سبب اضطراب السلوك هوالشعور بالنقص"، أما "كارل يونغ" فقد أكد أن اللاشعور مصدره الحاجة إلى السيطرة والميل الجنسي.

          وتركيبا لهذا الجدل الفلسفي بين الموقفين (التوفيق بين الرأيين)، فإن النظرية الكلاسيكية إهتمت بالحياة النفسية الشعورية، أما مدرسة التحليل النفسي فاهتمت باكتشاف الحياة النفسية اللاشعورية، واعتبرت الجانب اللاشعوري يحتل الجزء الأكبر من حياتنا النفسية، وعلى هذا الأساس نفهم بأن الحوادث النفسية مركبة من الشعور واللاشعور معا كعنصرين متكاملين، لأن الكثير من السلوكات أو الأفعال والإنفعالات لا يمكن تفسيرها بالإعتماد على الشعور وحده، ففرضية اللاشعور هي الأخرى فسرت العديد من السلوكات وسلّطت الضوء على حالات كثيرة لم تكن مفهومة أو معروفة، وتبقى الغريزة الجنسية تشكل عنصرا فاعلا إلى جانب العقل (الوعي)، مما يعني:"أن المفارقة في طبيعة الإنسان أنه مركب من عقل وغريزة".

إذن، فالأحوال النفسية في حقيقتها الموضوعية – وليست الذاتية – لها جانبان مترابطان، الأول شعوري، والثاني لا شعوري.

          ومن وجهة نظري الشخصية (موقفي الذاتي) فإن الحوادث النفسية قائمة على أساس اللاشعور (اللاوعي) وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، والدليل على ذلك أننا في كثير من الأحيان نقوم بسلوكات لا نعرف سببها مثل: كره المسلمين لليهود، فهذا الكره كعقدة نفسية مرتبط بالذكريات الأليمة (مكبوتات) الناتجة عن الصراع الديني بينهما عبر التاريخ، أضف إلى ذلك أن غرائزنا الجنسية تتجسد في حياتنا اليومية وبعدة أشكال كالحب، والمتعة الجنسية...إلخ، كما أن أفعالنا الإعتيادية مبنية على التكرار وليست على الوعي، وهذا ما أكده الفيلسوف الألماني "ليبنتز" عندما بيّن أن الأفعال العادية الآلية ينعدم فيها الشعور والوعي، ويقول في هذا المجال:"إن العادة تجعلنا لا نشعر بصوت المطحنة أو ضجة الشلال".

وفي العديد من الحالات نلجأ إلى حيل لا شعورية مثل:

التقمص، وهو عملية لا شعورية يحاول فيها الفرد أن يدمج نفسه في شخصية فرد آخر حقق أهدافا يشتاق إليها، فالطفل - مثلا - قد يتقمص شخصية والده، أي يتوحد بها.

التعويض، هو سلوك وحيلة لا شعورية تٌعبّر عن عقدة النقص فمثلا: إذا أخفق الأب في ميدان معين فإنه سيحاول إنجاح أحد أبنائه فيما فشل فيه.

وقد أكد "سيغموند فرويد" أن المكبوتات المرفوضة اجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا هي مصدر اللاشعور، وهذا ما أكده بقوله:"يتولد اللاشعور من عملية الكبت، والحد الفاصل بين الشعور واللاشعور مساحة الكبت، فبدون عملية الكبت لا يمكن أن تتصور الرغبة اللاشعورية التي تشكل النواة الأولى للشعور".

كما أوضح "فرويد" من خلال تقسيمه للجهاز النفسي إلى الهو والأنا والأنا الأعلى أن وظيفة "الأنا" هي تنظيم العلاقة بين "الهو" و"الأنا الأعلى" لتحقيق الإنسجام النفسي للفرد في حياته اليومية الواقعية، ويقول "فرويد": "يستمد الأنا طاقاته من الهو، وقيوده من الأنا الأعلى، وعقباته من العالم الخارجي...إنه بذلك يخدم ثلاثة سادة طغاة".

3- حل المشكلة :

          ونستنتج من كل ما سبق تحليله أن الحياة النفسية تقوم على ثنائية متكاملة قوامها الشعور واللاشعور، فالشعور بأفعاله وانفعالاته يعتبر مسألة حيوية نفسر من خلالها مختلف الحوادث النفسية لكي يتمكن الفرد من تحقيق التكيف مع الواقع، واللاشعور بمخزونه المتنوع (المكبوتات) يساعد على اكتشاف تاريخ الفرد وماضيه الطفولي خاصة، لتقويم سلوكه والتعرف على شخصيته، مما يعني أن الحياة النفسية - كما يراها "فرويد" - هي أشبه بجبل من الجليد ما يظهر منه أقل بكثير مما خفي، ومن هنا فإن اللاشعور يعد "فرضية" فلسفية تمثل إجتهاد "فرويد" في تفسير السلوكات باللاشعور القائم على المكبوتات وخاصة الجنسية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فاللاشعور يمثل "نظرية" علمية بالنظر إلى مساهمته في تقدم علم النفس العيادي والطب النفسي...إلخ، وذلك بفضل التجارب العلمية على المرضى خاصة.

إذن، فالحياة النفسية تتأرجح بين الشعور واللاشعور معا، وكما يقال:"إذا كان الشعور يشكل رأس الجبل وقمته، فإن اللاشعور يشكل عمقه وقاعدته"، بل إن "فرويد" إعترف بوجود الشعور كحقيقة نفسية ملازمة للاشعور، وهذا ما أكده بقوله:"إن التحليل النفسي لا يمكنه أن يعترض على توحيد ما هو نفسي بما هو شعوري".

ملاحظة: هذه المقالة الموسعة من كتاب الدكتور حمزة طالبي "الأنوار في الفلسفة".

اسئلة متعلقة

...